انطلقت فكرة الصمود من تونس، حيث شهدت العاصمة في التاسع من جويلية 2025 خروج قافلة برية ضخمة حملت اسم “قافلة الصمود الأولى” باتجاه غزة بمشاركة أكثر من ألف ناشط من تونس والدول المغاربية كان الهدف منها إيصال رسالة إنسانية وسياسية قوية عبر الطريق البري، مرورًا بليبيا ومصر وصولاً إلى القطاع غير أن المسار تعثر سريعًا بسبب غياب التصاريح الأمنية من السلطات في شرق ليبيا وهو ما أدى إلى ايقاف عدد من المشاركين قبل أن يُطلق سراحهم ويعود الجميع إلى تونس في الثامن عشر من جوييلية هذه العودة لم تُنه الحلم بل كانت بداية لمبادرة جديدة أكثر جرأة تمثلت في نقل التضامن إلى البحر
في السادس عشر من جويلية 2025 أعلنت تنسيقية “العمل المشترك من أجل فلسطين” في تونس عن إطلاق “أسطول الصمود المغاربي” تحت شعار “أشرعتنا نحو غزة وغايتنا كسر الحصار”، في إطار التحاق بالمبادرة الدولية الأوسع المعروفة باسم “أسطول الصمود العالمي” ما ميّز هذه المبادرة أنها لم تقتصر على القوى الشعبية في تونس بل جمعت وفودًا من ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا والتحق بها أيضًا متضامنون أوروبيون من بريطانيا، البرتغال، إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، واليونان، فضلًا عن ناشطين من بلدان الشمال الأوروبي وفي مقدمتهم السويدية غريتا ثونبرغ هذا التنوع جعل الأسطول المغاربي بمثابة حلقة وصل بين الضفتين العربية والأوروبية وأكسبه بعدًا سياسيًا وإعلاميًا عالميًا
كان من المنتظر أن ينطلق الأسطول في بداية سبتمبر وقد أعلن غسان الهنشيري في مؤتمر صحفي في العاشر من أوت أن الموعد سيكون الرابع من الشهر ذاته لكن تأخر انطلاق الأسطول العالمي من برشلونة وسوء الأحوال الجوية أديا إلى تعديل الخطة وتأجيل الموعد إلى السابع من سبتمبر وفي الرابع من الشهر ذاته وصل عشرون ناشطًا جزائريًا إلى تونس بعد موافقة سلطات بلادهم وهو ما أضفى على المشاركة المغاربية طابعًا رسميًا وشعبيًا في آن واحد
سفن وقوارب الأسطول بميناء سيدي بوسعيد رست استعدادا للتحرك المرتقب نحو عرض البحر. غير أنّ البداية لم تخلُ من المخاطر، فقد تعرض القارب البريطاني “Alma” لحريق ناجم عن ما وصفه المنظمون بهجوم بطائرة مسيّرة ما أدى إلى أضرار في سطحه العلوي دون إصابات بشرية. وقبلها بيوم فقط كانت سفينة “Family” البرتغالية قد واجهت حادثًا مشابهًا وهي راسية في الميناء نفسه هذه التطورات أثارت حالة من التوتر والجدل حيث اعتبر القائمون على المبادرة أنّ ما جرى هو محاولة متعمدة لعرقلة الرحلة، بينما أصدرت وزارة الداخلية التونسية بيانًا نفت فيه فرضية “الهجوم الخارجي” وأكدت أنّ نشوب حريق في احدى سترات النجاة سرعان ما تمت السيطرة عليه ولم يخلف لا أضرار بشرية ولا أضرار مادية باستثناء إحتراق عدد من هاته السترات هو سبب هذا الحادث العرضي..
اللافت أنّ هذه الأحداث لم تُثنِ المتضامنين عن المضي قدمًا، بل جددوا التزامهم بمواصلة المسار البحري نحو غزة، معتبرين أن مجرد الإبحار من تونس في اتجاه القطاع هو انتصار رمزي بحد ذاته. وقد بدا المشهد في ميناء سيدي بوسعيد مثيرًا، حيث احتشد المواطنون لدعم المشاركين ورفعوا الأعلام الفلسطينية والتونسية، في لحظة اختلط فيها البعد الشعبي بالبعد السياسي
لقد لعبت تونس دورًا مركزيًا في كل هذا المسار؛ فمنها انطلقت القافلة البرية، وعلى أرضها وُلدت فكرة الأسطول البحري، وفي موانئها تجمّعت القوى المغاربية والأوروبية وقدّم هذا الدور صورة بأن تونس حاضنة شعبية متحمسة للقضية الفلسطينية
إن ما يجري اليوم يتجاوز مجرد رحلة بحرية، فهو حدث يتقاطع فيه الرمزي بالسياسي، والتضامن الإنساني بالمواجهة الإعلامية. فأسطول الصمود المغاربي يعكس إرادة مشتركة من شعوب المغرب العربي وحلفائهم الأوروبيين في تحدي حصار خانق مستمر منذ سنوات، ويفتح الباب أمام قراءة جديدة للدور الشعبي في دعم فلسطين ورغم المخاطر والضغوط، فإن إصرار المشاركين على رفع الأشرعة نحو غزة يجعل من هذه المبادرة صرخة جماعية ضد العزلة، ورسالة مفادها أن الحصار لن يكون قدرًا أبديًا، وأن صوت الشعوب من تونس إلى لندن ومن الجزائر إلى مدريد قادر على اختراق جدران الصمت
مقال رأي : أحمد العامري

