واحات قبلي وتوزر… قلب الصحراء النابض وإرث الحضارات
تزخر ولايتا قبلي وتوزر بواحاتٍ تمتد جذورها في عمق التاريخ، حملت على مر العصور إرث الحضارات التي تعاقبت على تونس فقد أشار عالم الزراعة ماجون القرطاجي في مدونته الفلاحية الشهيرة، التي ترجمها الرومان وحافظ عليها المسلمون في الأندلس، إلى أساليب غراسة النخيل والعناية به وإنتاج التمور، ومن بينها “دقلة النور” التي اشتهرت بها هذه الربوع منذ القدم، ولا تزال إلى اليوم علامةً فارقة في صادرات تونس الفلاحية
تتميز توزر وقبلي بتنوع واحاتِها، فمنها الواحات الجبلية التي نشأت وسط الصخور وحول منابع المياه العذبة في عيون وجداول وشلالات، مثل واحات الشبيكة وتمغزة وميداس في ولاية توزر، والتي تحولت إلى وجهات سياحية عالمية تجذب الزائرين بجمال تضاريسها وقساوة طبيعتها التي لم تمنع النخيل من النمو والازدهار. وفي المقابل، تمتد الواحات الرملية المنبسطة في قلب الصحراء، مثل واحات دوز وقبلي وتوزر، التي تمنح المشهد الصحراوي لوحةً طبيعيةً ساحرة وسط كثبان الرمال الذهبية. وقد نشأت حول هذه الواحات مدنٌ ازدهرت حضاريًا وثقافيًا عبر القرون، حتى باتت مراكز حضرية كبرى
في ولاية قبلي قديما، يطغى على العمارة الطابع الواحاتي الصحراوي، حيث تندمج البيوت الطينية ذات الجدران السميكة والأسقف المصنوعة من جريد النخيل مع المشهد الطبيعي المحيط، في انسجام يحافظ على برودة الداخل صيفًا ودفئه شتاءً. وتحتفظ القرى القديمة مثل قبلي القديمة والبليدات وبازمة وقصر غيلان بمبانيها التقليدية التي تعكس عبقرية التكيّف مع مناخ الصحراء، بينما تحمل المدن الحديثة مزيجًا من الطراز الواحاتي والتصاميم المعاصرة
المعمار التقليدي في توزر يعكس هو الآخر براعة التكيف مع المناخ، فالمدينة العتيقة ذات الطابع العربي الإسلامي بُنيت بأسلوب يحمي السكان من حر الصيف، بينما تحتفظ نفطة بطراز معماري مميز يضفي عليها رونقًا خاصًا. ومن أبرز معالم المنطقة مسجد بلاد الحاضر ومتحف دار شريط، الذي يروي تاريخ تونس منذ العصور الحجرية ويحتضن أقسامًا للتراث والصناعات التقليدية، إلى جانب مجسمات لأساطير “ألف ليلة وليلة” التي تضيف لمسة من السحر إلى التجربة السياحية
الواحات لم تكن يومًا مجرد أماكن للاستقرار، بل أنجبت شخصيات مؤثرة في تاريخ البلاد. ففي توزر، ولد شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي، ومحمد الخضر حسين الذي أصبح شيخ الأزهر في مصر، وابن الشباط التوزري، الأديب والمهندس البارع الذي وضع نظامًا لتقسيم مياه الواحات ما زال يُعمل به حتى اليوم. أما قبلي، فقد أنجبت أسماء لامعة في الفكر والأدب إضافة إلى مناضلين وطنيين تركوا بصمتهم في الحركة التحررية ضد الاستعمار. كما كانت قبلي ولا تزال حاضنة للشعراء الشعبيين الذين حفظوا الموروث الشفوي ونقلوا وجدان الصحراء في قصائدهم
الغراسة، وخاصة إنتاج التمور، هي العمود الفقري لاقتصاد قبلي وتوزر. وتعد دقلة النور، التي تتفرد بها واحات قبلي وتوزر، من أجود أنواع التمور في العالم، وتصدرها تونس منذ سنة 1890 إلى أسواق أوروبا وشرق آسيا والأمريكيتين. وقد ارتبط هذا المنتوج بمهرجانات ذات صبغة دولية، مثل مهرجان الصحراء بدوز ومهرجان التمور ومهرجان الواحات بتوزر، حيث تمتزج عروض الفروسية والشعر والموسيقى الصحراوية بفرحة موسم الجني
كما ازدهرت الصناعات التقليدية في هذه الواحات، ومنها صناعة المرقوم – وهو نوع من السجاد ينسج على النول – وصناعة البرنوس الصوفي، والقفاف والمظلات من سعف النخيل، إضافة إلى الفخار وسروج الخيول والإبل. هذه الحرف التي ورثها الأهالي عن أجدادهم ما زالت تحافظ على روح المكان وتمنح الزائر فرصة اقتناء قطع فريدة تحمل عبق الصحراء
ولأن السياحة الصحراوية تمثل ركيزة أساسية للمنطقة، فقد دعمتها الدولة ببنية تحتية متطورة، من فنادق ومطاعم ومناطق سياحية، إضافة إلى مطار توزر نفطة الدولي الذي يسهل وصول السياح من مختلف أنحاء العالم. وهكذا تبقى واحات قبلي وتوزر قلب الصحراء النابض، حيث يلتقي التاريخ بالطبيعة، وتعيش الحضارة في كنف النخيل
تُعد قبلي وتوزر من أبرز الوجهات العالمية للسياحة الصحراوية، حيث تجذب الزوار المغامرين الذين يبحثون عن تجربة فريدة بين الكثبان الرملية الشاسعة، وجولات السفاري بسيارات الدفع الرباعي، وركوب الجمال عبر مسالك القوافل القديمة. كما تشتهر المنطقة بالسياحة الإيكولوجية التي تعتمد على استكشاف الواحات والنظم البيئية الصحراوية الفريدة، مع احترام التنوع الحيوي وحماية الموارد الطبيعية. وتوفر بعض النزل البيئية إقامةً وسط النخيل بأسلوب مستدام يدمج الراحة مع المحافظة على البيئة، ما يجعل التجربة أكثر قربًا من روح المكان وأصالة الحياة الصحراوية
قبلي وتوزر هما مرآة لروح الصحراء وذاكرة الحضارات. في واحات النخيل، يلتقي عبق الماضي بإبداع الحاضر، وفي كثبان الرمال تكتب الشمس قصصًا من الجمال والخلود. بين المعمار التقليدي، والشعر الذي يفيض بصدق الأرض، والزراعة التي تعانق السماء بثمارها الذهبية، والسياحة التي تفتح أبواب العالم على رحابة الصحراء… تظل هاتان الولايتان قلبًا نابضًا يحمل رسالة أن الصحراء ليست فراغًا، بل حياة متجددة تنبض في كل نخلة، وكل نسمة ريح، وكل قصيدة تخرج من بين رمالها
[wpcd_coupon id=7268]

